فصل: من فوائد الزمخشري في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيًا، ويحتمل أن يكون مضارعًا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، وأصله تتولوا {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} أي بهم أو بكم، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه {بالمفسدين} من معاقبته لهم، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيهًا على العلة المقتضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد، وقيل: المعنى على أن الله عليم بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهلتك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلى أنه ليس الجزاء والعقاب، والكلام منساق لتسليته صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ما فيه. اهـ.

.قال أبو حيان:

والمعنى: ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم، ونبه على العلة التي توجب العقاب، وهي الإفساد، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير، وأتى به جمعًا ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم، ولكونه رأس آية، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فإن تولوا} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: عن الملاعنة، قاله مقاتل.
والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الزجاج.
والثالث: عن الإقرار بوحدانية الله، وتنزيهه عن الصاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدمشقي، وفي الفساد هاهنا قولان.
أحدهما: أنه العمل بالمعاصي، قاله مقاتل.
والثاني: الكفر، ذكره الدمشقي. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة آل عمران: آية 52]

{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)}.
{فَلَمَّا أَحَسَّ} فلما علم منهم {الْكُفْرَ} علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس.
و{إِلَى الله} من صلة أنصارى مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله، ينصرونني كما ينصرني، أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي من أنصارى، ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه.
{نَحْنُ أَنْصارُ الله} أي أنصار دينه ورسوله. وحوارىّ الرجل: صفوته وخاصته. ومنه قيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن، قال:
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ** وَلَا تَبْكِنَا إلّا الْكِلَابُ النَّوَابِحُ

وفي وزنه الحوالى، وهو الكثير الحيلة. وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيدًا لإيمانهم، لأنّ الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم {مَعَ الشَّاهِدِينَ} مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم أو مع الذين يشهدون بالوحدانية.
وقيل: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم شهداء على الناس وَمَكَرُوا الواو لكفار بنى إسرائيل الذين أحس منهم الكفر، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة {وَمَكَرَ الله} أن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل {وَالله خَيْرُ الْماكِرِينَ} أقواهم مكرًا وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.

.[سورة آل عمران: الآيات 55- 57]

{إِذْ قالَ الله يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَالله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)}.
{إِذْ قالَ الله} ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي مستوفى أجلك.
معناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل كتبته لك. ومميتك حتف أنفك لا قتيلا بأيديهم {وَرافِعُكَ إِلَيَّ} إلى سمائي ومقرّ ملائكتي {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} من سوء جوارهم وخبث صحبتهم. وقيل متوفيك: قابضك من الأرض، من توفيت مالى على فلان إذا استوفيته: وقيل: مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن: وقيل:
متوفى نفسك بالنوم من قوله: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف، ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع، دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} تفسير الحكم قوله: {فَأُعَذِّبُهُمْ} {فنوفيهم أجورهم} وقرئ فيوفيهم بالياء.

.[سورة آل عمران: آية 58]

{ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}.
ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبإ عيسى وغيره وهو مبتدأ خبره {نَتْلُوهُ} و{مِنَ الْآياتِ} خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي، ونتلوه صلته. ومن الآيات الخبر: ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر تفسيره نتلوه {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} القرآن، وصف بصفة من هو سببه، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.

.[سورة آل عمران: آية 59]

{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسى} إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم.
وقوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم، وكذلك حال عيسى. فإن قلت: كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب، ووجد آدم من غير أب وأم؟ قلت:
هو مثيله في إحدى الطرفين، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به، لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شبه به لأنه وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، وهما في ذلك نظيران، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه.
وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى، قالوا: لأنه لا أب له. قال. فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا: كان يحيى الموتى. قال: فحزقيل أولى، لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص. قال: فجرجيس أولى، لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالما.
{خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} قدّره جسدًا من طين.
{ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ} أي أنشأه بشرًا كقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ}.
{فَيَكُونُ} حكاية حال ماضية.

.[سورة آل عمران: آية 60]

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}.
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} خبر مبتدإ محذوف، أي هو الحق كقول أهل خيبر: محمد والخميس.
ونهيه عن الامتراء- وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممتريا- من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفا لغيره.

.[سورة آل عمران: آية 61]

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ الله عَلَى الْكاذِبِينَ (61)}.
{فَمَنْ حَاجَّكَ} من النصارى فِيهِ في عيسى {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي من البينات الموجبة للعلم {تَعالَوْا} هلموا. والمراد المجيء بالرأى والعزم، كما نقول تعال نفكر في هذه المسألة {نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ} أي يدع كل منى ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم. والبهلة بالفتح، والضم: اللعنة. وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله. وناقة باهل: لاصرار عليها وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا.
وروى أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمدًا نبىٌّ مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذًا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلىٌّ خلفها وهو يقول: «إذا أنا دعوت فأمّنوا» فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا قال: «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا. قال: «فإنى أناجزكم» فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أنّ نؤدي إليك كل عام ألفى حلة: ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد. فصالحهم على ذلك وقال: «والذي نفسي بيده، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارًا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا» وعن عائشة رضى الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم على، ثم قال: {إِنَّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فإن قلت. ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام. وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

.[سورة آل عمران: الآيات 62- 63]

{إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}.
{إِنَّ هذا} الذي قص عليك من نبأ عيسى {لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} قرئ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون، لأن اللام تنزل من (هو) منزلة بعضه، فخفف كما خفف عضد. وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها، وإما مبتدأ والقصص الحق خبره، والجملة خبر إن. فإن قلت: لم جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت: إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز، لأنه أقرب إلى المبتدإ منه، وأصلها أن تدخل على المبتدإ.
و{من} في قوله: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا الله} بمنزلة البناء على الفتح في: {إِلهٍ إِلَّا الله} في إفادة معنى الاستغراق، والمراد والردّ على النصارى في تثليثهم {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله: {زِدْناهُمْ عَذابًا فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد صاحب المنار:
قال رحمه الله:
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: انْتَقَلَ مِنَ الْبِشَارَةِ بِعِيسَى إِلَى ذِكْرِ خَبَرِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَطَوَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ خَبَرِ وِلَادَتِهِ وَنَشْأَتِهِ وَبَعْثَتِهِ مُؤَيَّدًا بِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَهَذَا مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ، فَقَدِ انْطَوَى تَحْتَ قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} جَمِيعُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبِشَارَةُ وَعُلِمَ أنه وُلِدَ وَبُعِثَ وَدَعَا وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ كَمَا سَبَقَتِ الْبِشَارَةُ، فَأَحَسَّ وَشَعَرَ مِنْ قَوْمِهِ- وَهُمْ بَنُو إسرائيل- الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ وَالْمُقَاوَمَةَ وَالْقَصْدَ بِالْإِيذَاءِ، وَفِي هَذَا مِنَ الْعِبْرَةِ وَالتَّسْلِيَةِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا فِيهِ، وَإِنَّ أَكْبَرَ مَا فِيهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ وَإِنْ كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ لَيْسَتْ مُلْزِمَةً بالإيمان وَلَا مُفْضِيَةً إِلَيْهِ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الإيمان بِاسْتِعْدَادِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ وَحُسْنِ بَيَانِ الدَّاعِي؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى عليه السلام أنه لَمَّا أَحَسَّ مِنْ قَوْمِهِ الْكُفْرَ {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} أَيْ تَوَجَّهَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ أَهْلِ الِاسْتِعْدَادِ الَّذِينَ يَنْصُرُونَهُ فِي دَعْوَتِهِ تَارِكِينَ لِأَجْلِهَا كُلَّ مَا يُشْغِلُ عَنْهَا مُنْخَلِعِينَ عَمَّا كَانُوا فِيهِ مُتَحَيِّزِينَ وَمُنْزَوِينَ إِلَى اللهِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى خَاذِلِيهِ وَالْكَافِرِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ } أَيْ أَنْصَارُ دِينِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُفِيدُ الِانْخِلَاعَ وَالِانْفِصَالَ مِنَ التَّقَالِيدِ السَّابِقَةِ وَالْأَخْذَ بِالتَّعْلِيمِ الْجَدِيدِ، وَبَذْلَ مُنْتَهَى الِاسْتِطَاعَةِ فِي تَأْيِيدِهِ؛ فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِذَلِكَ وَالْحَوَارِيُّونَ: أَنْصَارُ الْمَسِيحِ، وَالنَّصْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِتَالَ، فَالْعَمَلُ بِالدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ نَصْرٌ لَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَلَا تَتَكَلَّمُ فِي عَدَدِهِمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُعَيِّنْهُ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ لَفْظَ الْحَوَارِيِّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُوَّارَى وَهُوَ لُبَابُ الدَّقِيقِ وَخَالِصُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خِيَارِ الْقَوْمِ وَصَفْوَتِهِمْ، أَوْ مِنَ الْحَوَرِ وَهُوَ الْبَيَاضُ، وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ وَمِنْ هُنَا قِيلَ خَاصٌّ بِأَنْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } مُخْلِصُونَ لَهُ مُنْقَادُونَ لِأَمْرِهِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإسلام دِينُ اللهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ وَأحكامه وَأَعْمَالِهِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ (أَحَسَّ) يُسْتَعْمَلُ فِي إِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ أَحْسَسْتُ مِنْهُ مَكْرًا، وَأَحْسَسْتُ مِنْهُ بِمَكْرٍ، وَمَا أَحْسَسْنَا مِنْهُ خَبَرًا، وَهَلْ تُحِسُّ مِنْ فُلَانٍ بِخَبَرٍ؟ وَالْمَكْرُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَإِنْ كَانَ يُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَعْمَالِ الْحِسِّيَّةِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِهَا.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي الْآيَةِ: تَحَقَّقَ كُفْرُهُمْ عِنْدَهُ تَحَقُّقَ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى أَحَسَّ الشَّيْءَ أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَجَازٌ شُبِّهَ فِيهِ الْمَعْقُولُ بِالْمَحْسُوسِ فِي الْجَلَاءِ وَالْوُصُولِ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ، عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ يُعْرَفُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْمَحْسُوسَةِ.